فصل: تفسير الآيات (21- 25):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (21- 25):

قوله تعالى: {قال نُوحٌ ربِّ إِنّهُمْ عصوْنِي واتّبعُوا منْ لمْ يزِدْهُ مالُهُ وولدُهُ إِلّا خسارا (21) ومكرُوا مكْرا كُبّارا (22) وقالوا لا تذرُنّ آلِهتكُمْ ولا تذرُنّ ودّا ولا سُواعا ولا يغُوث ويعُوق ونسْرا (23) وقدْ أضلُّوا كثِيرا ولا تزِدِ الظّالِمِين إِلّا ضلالا (24) مِمّا خطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فأُدْخِلُوا نارا فلمْ يجِدُوا لهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ أنْصارا (25)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كانوا جادلوه عليه الصلاة والسلام بعد هذا البيان الذي لا يشك في دلالته على المراد من تحقق لصفاء الإيقان، فأكثروا الجدال ونسبوه إلى الضلال وعصوه أقبح العصيان وقابلوه بأشنع الأقوال والأفعال، طوى ذلك مشيرا إليه بقوله مستأنفا: {قال نوح} أي بعد رفقه بهم ولينه لهم شاكيا منهم: {رب} أي أيها المحسن إليّ المدبر لي المتولي لجميع أموري.
ولما كان الضعفاء أكثر الناس بحيث إذا اجتمعوا دل الرؤوس الأقوياء بالأموال والأولاد وكانوا كأنهم الكل، فقال مؤكدا لأن عصيانهم له بعد ذلك مما يبعد وقوعه: {إنهم} أي قومي الذين دعوتهم إليك مع صبري عليهم ألف سنة إلا خمسين عاما {عصوني} أي فيما أمرتهم به ودعوتهم إليه فأبوا أن يجيبوا دعوتي وشردوا عني أشد شراد وخالفوني أقبح مخالفة {واتبعوا} أي بغاية جهدهم نظرا إلى المظنون العاجل بعد ترك المحقق عاجلا وآجلا {من} أي من رؤسائهم البطرين بأموالهم المغترين بولدانهم، وفسرهم بقوله: {لم يزده} أي شيئا من الأشياء.
ولما كان المال يكون للإنسان الولد، وكان ينبغي أن يشكر الله الذي آتاه إياه ليكون له خيرا في الدارين وكذا الولد قال: {ماله} أي بكثرته {وولده} كذلك، وهو الجنس في قراءة التحريك- وكذا في قراءة ابن كثير والبصريين وحمزة والكسائي بالضم والسكون على أنه لغة في المفرد كالحزن والحزن والرشد والرشد، أو يكون على هذه جمعا كالأسد والأسد، ويكون اختيار أبي عمرو لهذه القراءة في هذا الحرف وحده للإشارة بجمع الكثرة المبني على الضمة التي هي أشد الحركات إلى أنهم- وإن زادت كثرتهم وعظمت قوتهم- لا يزيدونهم شيئا {إلا خسارا} بالبعد عن الله والعمى عن محجة الطريق، فإن البسط لهم في الدنيا بذلك كان سببا لطغيانهم وبطرهم واتباعهم لأهوائهم حتى كفروا واستغووا غيرهم فغلبوا عليهم فكانوا سببا في شقائهم وخسارتهم بخسارتهم، وكان عندهم أنها زادتهم رفعة، وفي السياق دليل على أنهم ما حصلت لهم الوجاهة إلا بها.
ولما كانت كثرة الرؤساء قوة أخرى إلى قوتهم بمتاع الدنيا، وكان التقدير: فأمرتهم بالإيمان فأبوا وأمروهم بالكفر فانقادوا لهم، عطف عليه مبينا لكثرتهم بضمير الجمع العائد على (من) عاطفا على {لم يزده} المفردة الضمير للفظ جامعا له للمعنى لتجمع العبارة الحكم على المفرد والجمع، فيكون أدل شيء على المراد منها فقال: {ومكروا} أي هؤلاء الرؤساء في تنفير الناس عني- وأكد الفعل بالمصدر دلالة على قوته فقال: {مكرا} وزاده تأكيدا بصيغة هي النهاية في المبالغة فقال: {كبارا} فإنه أبلغ من كبار المخفف الأبلغ من كبير، فلم يدعوا أحدا منهم بذلك المكر يتبعني {وقالوا} أي لهم في أداني المكر الذي حصل منهم.
ولما كان دعاء الرسل عليهم الصلاة والسلام جديرا بالقبول لما لهم من الجلالة والحلاوة والبيان والرونق والظهور في الفلاح، أكدوا قولهم: {لا تذرن آلهتكم} أي لا تتركنها على حالة من الحالات لا قبيحة ولا حسنة، وأضافوها إليهم تحسبا فيها، ثم خصوا بالتسمية زيادة في الحث وتصريحا بالمقصود فقالوا مكررين النهي والعامل تأكيدا: {ولا تذرن} ولعلهم كانوا يوافقون العرب في أن الود هو الحب الكثير، فناسب المقام بذاتهم بقوله: {ودا} وأعادوا النافي تأكيدا فقالوا: {ولا سواعا} وأكدوا هذا التأكيد وأبلغوا فيه فقالوا: {ولا يغوث} ولما بلغ التأكيد نهاية وعلم أن المقصود النهي عن كل فرد فرد لا عن المجموع بقيد الجمع أعروا فقالوا: {ويعوق ونسرا} معرى عن التأكيد للعلم بإرادته، وكان هؤلاء ناسا صالحين، فلما ماتوا حزن عليهم الناس ثم زين لهم إبليس تصويرهم تشويقا إلى العمل بطرائقهم الحسنة فصوروهم، فلما تمادى الزمان زين لهم عبادتهم لتحصيل المنافع الدنيوية ببركاتهم ثم نسي القوم الصالحون، وجعلوا أصناما آلهة من دون الله، وكانت عبادة هؤلاء أول عبادة الأوثان فأرسل الله سبحانه وتعالى نوحا عليه الصلاة والسلام للنهي عن ذلك إلى أن كان من أمره وأمر قومه ما هو معلوم، ثم أخرج إبليس هذه الأصنام بعد الطوفان فوصل شرها إلى العرب، فكان ود لكلب بدومة الجندل وسواع لهذيل ويغوث لمذحج ويعوق لمراد ونسر لحمير لآل ذي الكلاع، وقيل غير ذلك- والله أعلم قال البغوي: سواع لهذيل ويغوث لمراد، ثم لبني غطيف بالجرف عن سبأ ويعوق لهمذان.
قال أبو حيان: قال أبو عثمان النهدي: رأيت يغوث وكان من رصاص يحمل على جمل أجرد، يسيرون معه لا يهيجونه حتى يكون هو الذي يبرك، فإذا برك نزلوا وقالوا: قد رضي لكم المنزل، فينزلون حوله ويضربون عليه بناء، وروي عن ابن عباس- رضى الله عنهما- في سبب وصول شر تلك الأوثان إلى العرب أنها دفنها الطوفان ثم أخرجها الشيطان لمشركي العرب، وكانت للعرب أصنام أخر فاللات لثقيف، والعزى لسليم وغطفان وجشيم، ومنات بديد لهذيل، وإساف ونايلة وهبل لأهل مكة، وكان إساف حيال الحجر الأسود، ونايلة حيال الركن اليماني، وكان هبل في جوف الكعبة- انتهى، وقال الواقدي: ود على صورة رجل، وسواع على صورة امرأة، ويغوث على صورة أسد، ويعوق على صورة فرس، ونسر على صورة نسر- انتهى.
ولا يعارض هذا أنهم صور لناس صالحين لأن تصويرهم لهم يمكن أن يكون منتزعا من معانيهم، فكأن ودا كان أكملهم في الرجولية، وكانت سواع امرأة كاملة في العبادة، وكان يغوث شجاعا، ويعوق كان سباقا قويا، وكان نسر عظيما طويل العمر- والله تعالى أعلم.
ولما ذكر مكرهم وما أظهروا من قولهم، عطف عليه ما توقع السامع من أمره فقال: {وقد أضلوا} أي الأصنام وعابدوها بهذه العبادة {كثيرا} من عبادك الذين خلقتهم على الفطرة السليمة من أهل زمانهم وممن أتى بعدهم فإنهم أول من سن هذه السنة السيئة فعليهم وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.
ولما كان التقدير: فلا تزد الظالمين إلا خسارا، عطف عليه قوله مظهرا في موضع الإضمار تعميما وتعليقا للحكم بالوصف: {ولا تزد الظالمين} أي الراسخين في الوصف الموجب لأن تكون آثار المتصف به كآثار الماشي في في الظلام في وقوعها مختلة، شيئا من الأشياء التي هي فيهم {إلا ضلالا} أي طبعا على عقولهم وقلوبهم حتى يعموا عن الحق وعن جميع مقاصدهم الفاسدة الضالة الراسخة في الضلال فلا يكون منها شيء على وجه يكون فيه شيء من سداد، وكان هذا بعد أن أعلمه الله سبحانه وتعالى أنه لن يؤمن منهم إلا من قد آمن، والكلام عليه على كل حال كالكلام على دعاء موسى هارون عليهما وعلى محمد أفضل الصلاة والسلام في الشد على قلوب فرعون وملئة لئلا يؤمنوا في حال ينفعهم فيه كما مضى في سورة يونس عليه السلام، وقد بالغ ابن عربي في المروق من الدين فقال في فصوصة: إن هذا الدعاء حسن في حقهم، وقال: إن الضلال أهدى من الهدى، وإن الضال أحسن حالا من المهتدي، لأن الضال لا يزال قريبا من القطب المقصود دائرا حوله، والمهتدي صاحب طريقة مستطيلة، فهو يبعد عن المقصود، فأبان أن الله تعالى لم يخلق خلقا أسفه منه إلا من اتبعه عليه وعلى من ينحو نحوه من الضلال الذي لا يرضاه عاقل من عباد الأصنام الذين لا أسفه منهم ولا غيره، فعليهم أشد الخزي واللعنة.
ولما فرغ من أمرهم في ضلالهم، ودعا رسولهم صلى الله عليه وسلم، فلم يبق إلا إهلاكهم.
وكان من مفهومات الضلال المحق وإذهاب العين كما يضل الماء في اللبن، قال مبينا، إجابته لدعائه ذاكرا الجهة التي أهلكوا بسببها: وأكد ب (ما) النافية في الصورة لضد مضمون الكلام لاعتقاد الكفار أن الإنجاء والإهلاك عادة الدهر: {مما}.
ولما كان الكافر قد أخطأ ثلاث مرات: يكفره في الإيمان بالطاغوت، وتكذيب ربه، وتكذيب رسوله صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك كافيا في استحقاقه للأخذ قال: {خطيئاتهم} جامعا له جمع السلامة- في قراءة الجماعة، وأفهمت قراءة أبي عمرو بجمع التكسير أن لهم مع هذه الأمهات الكافية في الأخذ من الذنوب ما يفوت الحصر يوجب تغليظ ذلك الأخذ، فهي مشيرة إلى أنه ينبغي الاحتراز من كل الذنب.
ولما كان الموجع إغراقهم لا كونه من معين، قال مخبرا عما فعل بهم في الدنيا: {أغرقوا} أي بالطوفان بانيا له للمفعول لذلك وللإعلام بأنه في غاية السهولة على الفاعل المختار الواحد القهار، فطاف الماء عليهم جميع الأرض السهل والجبل، فلم يبق منهم أحدا، وكذا الكلام فيما تسبب عنه وتعقبه من قوله: {فأدخلوا} أي بقهر القهار في الآخرة التي أولها البرزخ يعرضون فيه على النار بكرة وعشيا {نارا} أي عظيمة جدا أخفها ما يكون من مبادئها في البرزخ، قال الشيخ ولي الدين الملوي: فعذبوا في الدنيا بالغرق، وفي الآخرة بالحرق، والإياس من الرحمة، وأيّ عذاب أشد من ذلك، وقال الضحاك: في حالة واحدة كانوا يغرقون في الماء من جانب ويحترقون في الماء من جانب آخر بقدرة الله سبحانه وتعالى، وفيها دلالة على قول غيره على عذاب القبر.
ولما كانوا قد استندوا إلى آلهتهم لتنصرهم من أخذ الله تعالى، قال مسببا عن هذا الإغراق والإدخال من الرحمة ليكون ذلك أشد في العذاب، فإن الإنسان- كما قال الملوي:- إذا كان في العذاب ويرجو الخلاص يهون عليه الأمر بخلاف ما إذا يئس من الخلاص، معلما بأن آلهتهم عاجزة فإنهم لم تغن عنهم شيئا، توبيخا لمن يعبد مثلها: {فلم يجدوا} وحقق الأمر فيهم بقوله: {لهم} أي عندما أناخ الله بهم سطوته وأحل بهم نقمته.
ولما كانت الرتب كلها دون رتبته تعالى، وكان ليس لأحد أن يستغرق جميع ما تحت رتبته سبحانه من المراتب، قال مثبتا الجار: {من دون الله} أي الملك الأعظم الذي تتضاءل المراتب تحت رتبة عظمته وتذل لعزه وجليل سطوته {أنصارا} ينصرونهم على من أراد بهم ذلك ليمنعوه مما فعل بهم أو يقتصوا منه لهم بما شهد به شاهد الوجود الذي هو أعدل الشهود من أنه تم ما أراده سبحانه وتعالى من إغراقهم من غير أن يتخلف منهم أحد على كثرتهم وقوتهم لكونهم أعداءه وإنجاء نبيه نوح عليه الصلاة والسلام ومن معه رضوان الله وسلامه عليهم أجمعين على ضعفهم وقلتهم لم يقعد منهم أحد لكونهم أولياءه، فكما لم يهلك ممن أراد إنجاءه أحد فكذلك لم يسلم منهم، فمن قال عن عوج ما يقوله القصاص فهو أيضا ضال أشد ضلال، فلعنة الله على من يقول: إن الله تعالى كان غير ناصرهم، مع هذه الدلالات التي هي نص في أنه عدوهم، وأن نصرهم إنما يكون على نبيه نوح عليه الصلاة والسلام، واعتقاد ذلك أو شيء منه كفر ظاهر لا محيد عنه بوجه، وقائل ذلك هو ابن عربي صاحب الفصوص الذي لم يرد بتصنيفه إلا هدم الشريعة المطهرة، ونظمه أيا ابن الفارض في تائيته التي سماها بنظم السلوك، فلعنة الله عليه وعلى من تبعه أو شك في كفره أو توقف في لعنه بعد ما نصب من الضلال الذي سعر به البلاد، وأردى كثيرا من العباد. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

واعلم أن نوحا عليه السلام لما دعاهم إلى الله ونبههم على هذه الدلائل الظاهرة حكى عنهم أنواع قبائحهم وأقوالهم وأفعالهم.
فالأول قوله: {قال نُوحٌ رّبّ إِنّهُمْ عصونى} وذلك لأنه قال في أول السورة {أنِ اعبدوا الله واتقوه وأطِيعُونِ} [نوح: 3] فكأنه قال: قلت لهم أطيعون فهم عصوني.
الثاني قوله: {واتبعوا من لّمْ يزِدْهُ مالُهُ وولدُهُ إِلاّ خسارا} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
ذكر في الآية الأولى أنهم عصوه وفي هذه الآية أنهم ضموا إلى عصيانه معصية أخرى وهي طاعة رؤسائهم الذين يدعونهم إلى الكفر، وقوله: {من لّمْ يزِدْهُ مالُهُ وولدُهُ إِلاّ خسارا} يعني هذان وإن كانا من جملة المنافع في الدنيا إلا أنهما لما صارا سببا للخسار في الآخرة فكأنهما صارا محض الخسار والأمر كذلك في الحقيقة لأن الدنيا في جنب الآخرة كالعدم فإذا صارت المنافع الدنيوية أسبابا للخسار في الآخرة صار ذلك جاريا مجرى اللقمة الواحدة من الحلو إذا كانت مسمومة سم الوقت، واستدل بهذه الآية من قال: إنه ليس لله على الكافر نعمة لأن هذه النعم استدراجات ووسائل إلى العذاب الأبدي فكانت كالعدم، ولهذا المعنى قال نوح عليه السلام في هذه الآية: {لّمْ يزِدْهُ مالُهُ وولدُهُ إِلاّ خسارا}.
المسألة الثانية:
قرئ {وولدُهُ} بضم الواو واعلم أن الولد بالضم لغة في الولد، ويجوز أن يكون جمعا إما جمع ولد كالفلك، وهاهنا يجوز أن يكون واحدا وجمعا.
النوع الثالث: من قبائح أفعالهم قوله تعالى: {ومكرُوا مكْرا كُبّارا (22)} فيه مسائل:
المسألة الأولى:
{ومكرُواْ} معطوف على {من لّمْ يزِدْهُ} [نوح: 21] لأن المتبوعين هم الذين مكروا وقالوا للأتباع: {لا تذرُنّ}، وجمع الضمير وهو راجع إلى {مِنْ}، لأنه في معنى الجمع.
المسألة الثانية:
قرئ {كُبّارا} و{كُبّارا} بالتخفيف والتثقيل، وهو مبالغة في الكبير، فأول المراتب الكبير، والأوسط الكبار بالتخفيف، والنهاية الكبار بالتثقيل، ونظيره: جميل وجمال وجمال، وعظيم وعظام وعظام، وطويل وطوال وطوال.
المسألة الثالثة:
المكر الكبار هو أنهم قالوا لأتباعهم: {لا تذرُنّ وُدّا} فهم منعوا القوم عن التوحيد، وأمروهم بالشرك، ولما كان التوحيد أعظم المراتب، لا جرم كان المنع منه أعظم الكبائر فلهذا وصفه الله تعالى بأنه كبار، واستدل بهذا من فضل علم الكلام على سائر العلوم، فقال: الأمر بالشرك كبار في القبح والخزي، فالأمر بالتوحيد والإرشاد وجب أن يكون كبارا في الخير والدين.
المسألة الرابعة:
أنه تعالى إنما سماه مكرا لوجهين الأول: لما في إضافة الإلهية إليهم من الحيلة الموجبة لاستمرارهم على عبادتها، كأنهم قالوا: هذه الأصنام آلهة لكم، وكانت آلهة لآبائكم، فلو قبلتم قول نوح لاعترفتم على أنفسكم بأنكم كنتم جاهلين ضالين كافرين، وعلى آبائكم بأنهم كانوا كذلك، ولما كان اعتراف الإنسان على نفسه، وعلى جميع أسلافه بالقصور والنقص والجهل شاقا شديدا، صارت الإشارة إلى هذه المعاني بلفظ آلهتكم صارفا لهم عن الدين، فلأجل اشتمال هذا الكلام على هذه الحيلة الخفية سمى الله كلامهم مكرا الثاني: أنه تعالى حكى عن أولئك المتبوعين أنهم كان لهم مال وولد، فلعلهم قالوا لأتباعهم: إن آلهتكم خير من إله نوح، لأن آلهتكم يعطونكم المال والولد، وإله نوح لا يعطيه شيئا لأنه فقير، فبهذا المكر صرفوهم عن طاعة نوح، وهذا مثل مكر فرعون إذ قال: {أليْس لِى مُلْكُ مِصْر} [الزخرف: 51] وقال: {أمْ أنا خيْرٌ مّنْ هذا الذي هُو مهِينٌ ولا يكادُ يُبِينُ فلوْلا أُلْقِى عليْهِ أسْوِرةٌ مّن ذهبٍ} [الزخرف: 52، 53].
المسألة الخامسة:
ذكر أبو زيد البلخي في كتابه في الرد على عبدة الأصنام أن العلم بأن هذه الخشبة المنحوتة في هذه الساعة ليست خالقة للسموات والأرض، والنبات والحيوان علم ضروري، والعلوم الضرورية لا يجوز وقوع الاختلاف فيها بين العقلاء، وعبادة الأوثان دين كان موجودا قبل مجيء نوح عليه السلام بدلالة هذه الآية، وقد استمر ذلك الدين إلى هذا الزمان، وأكثر سكان أطراف المعمورة على هذا الدين، فوجب حمل هذا الدين على وجه لا يعرف فساده بضرورة العقل، وإلا لما بقي هذه المدة المتطاولة في أكثر أطراف العالم، فإذا لابد وأن يكون للذاهبين إلى ذلك المذهب تأويلات أحدها: قال أبو معشر جعفر بن محمد المنجم: هذه المقالة إنما تولدت من مذهب القائلين بأن الله جسم وفي مكان، وذلك لأنهم قالوا: إن الله نور هو أعظم الأنوار، والملائكة الذين هم حافون حول العرش الذي هو مكانه، هم أنوار صغيرة بالنسبة إلى ذلك النور الأعظم، فالذين اعتقدوا هذا المذهب اتخذوا صنما هو أعظم الأصنام على صورة إلههم الذي اعتقدوه، واتخذوا أصناما متفاوتة، بالكبر والصغر والشرف والخسة على صورة الملائكة المقربين، واشتغلوا بعبادة تلك الأصنام على اعتقاد أنهم يعبدون الإله والملائكة، فدين عبادة الأوثان إنما ظهر من اعتقاد التجسيم الوجه الثاني: وهو أن جماعة الصابئة كانوا يعتقدون أن الإله الأعظم خلق هذه الكواكب الثابتة والسيارة، وفوض تدبير هذا العالم السفلي إليها، فالبشر عبيد هذه الكواكب، والكواكب عبيد الإله الأعظم، فالبشر يجب عليهم عبادة الكواكب، ثم إن هذه الكواكب كانت تطلع مرة وتغيب أخرى، فاتخذوا أصناما على صورها واشتغلوا بعبادتها، وغرضهم عبادة الكواكب الوجه الثالث: أن القوم الذين كانوا في قديم الدهر، كانوا منجمين على مذهب أصحاب الأحكام، في إضافات سعادات هذا العالم ونحوساتها إلى الكواكب، فإذا اتفق في الفلك شكل عجيب صالح لطلسم عجيب،
فكانوا يتخذون ذلك الطلسم، وكان يظهر منه أحوال عجيبة وآثار عظيمة، وكانوا يعظمون ذلك الطلسم ويكرمونه ويشتغلون بعبادته، وكانوا يتخذون كل طلسم على شكل موافق لكوكب خاص ولبرج خاص، فقيل: كان ود على صورة رجل، وسواع على صورة امرأة، ويغوث على صورة أسد، ويعوق على صورة فرس، ونسر على صورة نسر الوجه الرابع: أنه كان يموت أقوام صالحون فكانوا يتخذون تماثيل على صورهم ويشتغلون بتعظيمها، وغرضهم تعظيم أولئك الأقوام الذين ماتوا حتى يكونوا شافعين لهم عند الله وهو المراد من قولهم:
{ما نعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقرّبُونا إِلى الله زُلْفى} [الزمر: 3] الوجه الخامس: أنه ربما مات ملك عظيم، أو شخص عظيم، فكانوا يتخذون تمثالا على صورته وينظرون إليه، فالذين جاؤا بعد ذلك ظنوا أن آباءهم كانوا يعبدونها فاشتغلوا بعبادتها لتقليد الآباء، أو لعل هذه الأسماء الخمسة وهي: ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر، أسماء خمسة من أولاد آدم، فلما ماتوا قال إبليس لمن بعدهم: لو صورتم صورهم، فكنتم تنظرون إليهم، ففعلوا فلما مات أولئك قال لمن بعدهم: إنهم كانوا يعبدونهم فعبدوهم، ولهذا السبب نهى الرسول عليه السلام عن زيارة القبور أولا، ثم أذن فيها على ما يروى أنه عليه السلام قال: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإن في زيارتها تذكرة». السادس: الذين يقولون إنه تعالى جسم، وإنه يجوز عليه الانتقال والحلول، لا يستبعدون أن يحل تعالى في شخص إنسان، أو في شخص صنم، فإذا أحسوا من ذلك الصنم المتخذ على وجه الطلسم حالة عجيبة، خطر ببالهم أن الإله حصل في ذلك الصنم ولذلك فإن جمعا من قدماء الروافض لما رأوا أن عليا عليه السلام قلع باب خيبر، وكان ذلك على خلاف المعتاد قالوا: إن الإله حل في بدنه وإنه هو الإله الوجه السابع: لعلهم اتخذوا تلك الأصنام كالمحراب ومقصودهم بالعبادة هو الله، فهذا جملة ما في هذا الباب، وبعضها باطلة بدليل العقل، فإنه لما ثبت أنه تعالى ليس بجسم بطل اتخاذ الصنم على صورة الإله، وبطل القول أيضا بالحلول والنزول، ولما ثبت أنه تعالى هو القادر على كل المقدورات، بطل القول بالوسايط والطلسمات، ولما جاء الشرع بالمنع من اتخاذ الصنم، بطل القول باتخاذها محاريب وشفعاء.
المسألة السادسة:
هذه الأصنام الخمسة كانت أكبر أصنامهم، ثم إنها انتقلت عن قوم نوح إلى العرب، فكان ود لكلب، وسواع لهمدان، ويغوث لمذحج، ويعوق لمراد، ونسر لحمير ولذلك سمت العرب بعبد ود، وعبد يغوث، هكذا قيل في الكتب، وفيه إشكال لأن الدنيا قد خربت في زمان الطوفان، فكيف بقيت تلك الأصنام، وكيف انتقلت إلى العرب، ولا يمكن أن يقال: إن نوحا عليه السلام وضعها في السفينة وأمسكها لأنه عليه السلام إنما جاء لنفيها وكسرها فكيف يمكن أن يقال إنه وضعها في السفينة سعيا منه في حفظها.
المسألة السابعة:
قرئ: {لا تذرُنّ وُدّا} بفتح الواو وبضم الواو، قال الليث: ود بفتح الواو صنم كان لقوم نوح، ود بالضم صنم لقريش، وبه سمي عمرو بن عبد ود، وأقول: على قول الليث وجب أن لا يجوز هاهنا قراءة ود بالضم لأن هذه الآيات في قصة نوح لا في أحوال قريش وقرأ الأعمش: {ولا يغوثا ويعوقا} بالصرف وهذه قراءة مشكلة لأنهما إن كانا عربيين أو عجميين ففيهما سببا منع الصرف، إما التعريف ووزن الفعل، وإما التعريف والعجمة، فلعله صرفهما لأجل أنه وجد أخواتهما منصرفة ودا وسواعا ونسرا.
واعلم أن نوحا لما حكى عنهم أنهم قالوا لأتباعهم: {لا تذرُنّ ءالِهتكُمْ} قال: {وقدْ أضلُّواْ كثِيرا} فيه وجهان: الأول: أولئك الرؤساء قد أضلوا كثيرا قبل هؤلاء الموصين (بأن يتمسكوا) بعبادة الأصنام وليس هذا أول مرة اشتغلوا بالإضلال الثاني: يجوز أن يكون الضمير عائدا إلى الأصنام، كقوله: {إِنّهُنّ أضْللْن كثِيرا مّن الناس} [إبراهيم: 36] وأجرى الأصنام على هذا القول مجرى الآدميين كقوله: {ألهُمْ أرْجُلٌ} [الأعراف: 195]، وأما قوله تعالى: {ولا تزِدِ الظالمين إِلاّ ضلالا} ففيه سؤالان:
الأول: كيف موقع قوله: {ولا تزِدِ الظالمين}؟ الجواب: كأن نوحا عليه السلام لما أطنب في تعديد أفعالهم المنكرة وأقوالهم القبيحة امتلأ قلبه غيظا وغضبا عليهم فختم كلامه بأن دعا عليهم.
السؤال الثاني: إنما بعث ليصرفهم عن الضلال فكيف يليق به أن يدعو الله في أن يزيد في ضلالهم؟ الجواب: من وجهين: الأول: لعله ليس المراد الضلال في أمر الدين، بل الضلال في أمر دنياهم، وفي ترويج مكرهم وحيلهم الثاني: الضلال العذاب لقوله: {إِنّ المجرمين في ضلال وسُعُرٍ} [القمر: 47].
{مِمّا خطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فأُدْخِلُوا نارا فلمْ يجِدُوا لهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ أنْصارا (25)}
ثم إنه تعالى لما حكى كلام نوح عليه السلام قال بعده: {مّمّا خطاياهم أُغْرِقُواْ فأُدْخِلُواْ نارا} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
(ما) صلة كقوله: {فبِما نقْضِهِم} [النساء: 155] {فبِما رحْمةٍ} [النساء: 159] والمعنى من خطاياهم أي من أجلها وبسببها، وقرأ ابن مسعود: {من خطيآتهم ما أغرقوا} فأخر كلمة ما، وعلى هذه القراءة لا تكون ما صلة زائدة لأن ما مع ما بعده في تقرير المصدر.
واعلم أن تقديم قوله: {مّمّا خطاياهم} لبيان أنه لم يكن إغراقهم بالطوفان (فإدخالهم النار) إلا من أجل خطيآتهم، فمن قال من المنجمين: إن ذلك إنما كان بسبب أنه انقضى في ذلك الوقت نصف الدور الأعظم، وما يجري مجرى هذه الكلمات كان مكذبا لصريح هذه الآية فيجب تكفيره.
المسألة الثانية:
قرئ {خطيئاتهم} بالهمزة وخطياتهم بقلبها ياء وإدغامها و{خطاياهم} و{خطيئاتهم} بالتوحيد على إرادة الجنس، ويجوز أن يراد به الكفر.
واعلم أن الخطايا والخطيئآت كلاهما جمع خطيئة، إلا أن الأول جمع تكسير والثاني جمع سلامة، وقد تقدم الكلام فيها في [البقرة: 58] عند قوله: {نّغْفِرْ لكُمْ خطاياكم} وفي [الأعراف: 161] عند قوله: {خطيئاتكم}.
المسألة الثالثة:
تمسك أصحابنا في إثبات عذاب القبر بقوله: {أُغْرِقُواْ فأُدْخِلُواْ نارا} وذلك من وجهين الأول: أن الفاء في قوله: {فأُدْخِلُواْ نارا} تدل على أنه حصلت تلك الحالة عقيب الإغراق فلا يمكن حملها على عذاب الآخرة، وإلا بطلت دلالة هذه الفاء الثاني: أنه قال: {فادخلوا} على سبيل الإخبار عن الماضي.
وهذا إنما يصدق لو وقع ذلك، قال مقاتل والكلبي: معناه أنهم سيدخلون في الآخرة نارا ثم عبر عن المستقبل بلفظ الماضي لصحة كونه وصدق الوعد به كقوله: {ونادى أصحاب النار} [الأعراف: 50] {ونادى أصحاب الجنة} [الأعراف: 44] واعلم أن الذي قالوه ترك للظاهر من غير دليل.
فإن قيل: إنما تركنا هذا الظاهر لدليل، وهو أن من مات في الماء فإنا نشاهده هناك فكيف يمكن أن يقال: إنهم في تلك الساعة أدخلوا نارا؟ والجواب: هذا الإشكال إنما جاء لاعتقاد أن الإنسان هو مجموع هذا الهيكل، وهذا خطأ لما بينا أن هذا الإنسان هو الذي كان موجودا من أول عمره، مع أنه كان صغير الجثة في أول عمره، ثم إن أجزاءه دائما في التحلل والذوبان، ومعلوم أن الباقي غير المتبدل، فهذا الإنسان عبارة عن ذلك الشيء الذي هو باق من أول عمره إلى الآن، فلم لا يجوز أن يقال: إنه وإن بقيت هذه الجثة في الماء إلا أن الله تعالى نقل تلك الأجزاء الأصلية الباقية التي كان الإنسان المعين عبارة عنها إلى النار والعذاب.
ثم قال تعالى: {فلمْ يجِدُواْ لهُمْ مّن دُونِ الله أنصارا} وهذا تعريض بأنهم إنما واظبوا على عبادة تلك الأصنام لتكون دافعة للآفات عنهم جالبة للمنافع إليهم، فلما جاءهم عذاب الله لم ينتفعوا بتلك الأصنام، وما قدرت تلك الأصنام على دفع عذاب الله عنهم، وهو كقوله: {أمْ لهُمْ آلِهةٌ تمْنعُهُمْ مّن دُونِنا} [الأنبياء: 43] واعلم أن هذه الآية حجة على كل من عول على شيء غير الله تعالى. اهـ.